الأحد، أبريل ٠٩، ٢٠٠٦

المحطة الأخيرة لحسن



كان يرقد على دكته الخشبية في مدخل الدرب يستقبل القادمين من الحقول والسفر ومدارس القرية والعائدين من الخليج بحقائب السفر وأيام العمل وأجهزة الموبايل الحديثة والمارين بالقرية بحثاً عن الخبز أو إعلاناً لوفاة شخص مهم أو داعين لليالي الذكر.
يقضي يومه يستوقف المارين يسألهم عن أحوالهم وأولادهم وأعمالهم ودرجة الحرارة والساعة الأن وأسعار ما يجلبونه بين أيديهم من حاجيات وأخر أخبار تعويضات حرب الخليج.
تزهد فيه إذا ما رأيته بجلبابه الفضفاض وهيئته الضخمة يحسبه الجاهل درويشاً هائماً على وجهه لكن سريعاً ما يتبدل رأيك إذا تحدث .
كان يحدثنا عن أقمار السماء وفجاج الأرض وإطارات السيارات وموجات الضوء والكائنات الدقيقة وحروف الهجاء وما تبقى له من رحلات السفر.
في ذلك اليوم وقد مضى على سفري نحو الشمال شهور عدة قفلت بعدها عائداً نحو الجنوب فكان هو مستقبلي الأول على أول الدرب، كان مستلقياً يلتصق ظهرة بظهر دكته الخشبية العارية من أي فرش أو طنافس، يفترش خشبها الصلب المقطوع من شجرة أثل قديمة كنا نمتلكها يوماً وقد استحال لونها الأبيض المشرب بصفرة إلى اللون الأسود القاتم من غبار السنين، ارتفعت جفرته عن جانب الدكة الخشبية بينما صدره يرتفع ببطئ معلناً عن إستيلائه على بعض من حيز الهواء المحيط به وبنفس البطء يعود أيضاً في حركة رتيبة تعلن أنه ما زال على قيد الحياة.
أقتربت من للمسافة التي سمحت له برؤيتي، رمقني بنظرة زابلة بينما تحركت شفتاه: مين؟... محمد.
: أيوه يا عمي.
انتظرت أي رد فعل مرحباً بقدومي لكنه لم يفعل، شعرت حينها كم هو متعب، فما زلت أذكر أنه في المرات السابقة كان يصحبني عند قدومي من السفر حتى بيتنا في منتصف الدرب ويجلس معي وقتاً يطمئن خلاله عن أحوالي في الشمال وعن دراستي وعن أمور عدة أخرى، لكنه هذه المرة يبدو متعباً وقد فعلت السنين أفاعيلها مع هذا الجسد الضخم.
: انت جاي من فين يا محمد.
: من مصر يا عمي.
صمت بعدها للحظات بدأ خلالها يجمع الهواء المحيط به ويدفعه بصعوبة داخل جسده الضخم.
يعلم هو تماماً أنني أعمل بالقاهرة منذ سنوات ولكن بدا لي أنه بدأ يعاني من أعراض الشيخوخة التي غالباً ما تلازم كبار السن ولكن هذه الظاهرة لم ألحظها بأحد أجدادي الراحلين ما زلت أذكر "الحاج شاذلي" قبل وفاته بأيام وقد خطى أيامه الأولى من المائة الثانية من العمر وقد جلس يحكي عن تفاصيل دقيقة مرت به منذ عقود من الزمان لم يتذكرها أحد من أبنائه المحيطين به ساعتها ولكنها كانت تفاصيل لأحداث حقيقية قام بسردها بحذافيرها ثم مات بعدها بأيام.
: إيه أخبار المنيا.
قطع بها حسن الصمت الذي جلت خلاله بأيام مضت لا أدري عددها الأن.
: أنا مرحتش المنيا يا عمي.
بدأت أرفع صوتي كي يسمعني: أنا جاي من مصر
بدأ كلامه بهمهمة أعرف معناها جيداً من سابق حواري معه.
: هو القطر ما بيعديش على المنيا؟!.
: أيوه بيعدي بس أنا مرحتش المنيا.
: يعني القطر موقفش هناك خالص!.
: لا وقف شوية بس أنا منزلتش قعدت في الكرسي بتاعي.
بدأ حينها يعتدل في جلسته مستنداً إلى حافة الدكة الخشبية أستغرق وقتاً لا أدري لماذا لم أحاول مساعدته على الاعتدال حينها ربما لثقل حقيبة السفر التي أحملها على ظهري.
: طيب مشفتش أسيوط.
قالها بصوت مرتفع قليلاً وهو يرفع بقية جسده الذي بدا لي للوهلة الاولى ملتصقاً بالدكة
: لا برضه منزلتش دا أنا من ساعة ما ركبت القطر وأنا منتظر أوصل قنا وعايز انزل أزق القطر عشان يمشي أسرع.
بينما أكمل جملتي الاخيرة كان قد أعتدل ظهره تماماً ممدداً ساقيه بطول الدكة
: يعني عديت على بني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج ونجع حمادي ومشفتش ولا حاجة منهم ولا ما شفتش ناسهم.
لم أستوعب الكلام حتى أرد على جملته الأخيرة
كانت الشمس قد استدارت وبدأ شعاعها الحر يقسم الجسد الضخم إلى نصفين، أحدهما كسته الشمس بشعاعها الوهاج بينما ظل النصف الأخر في الظل ، وقبل أن يلتهم شعاع الشمس باقي كتلة الجسد وتلفه برداءها الذهبي بدأ يستدير رويداً رويداً حتى لامست قدماه الارض وأصبح الجسد محاطاً بشعاع الشمس.
لم ينظر لي وكان مطرقا برأسه نحو الأرض : شوف يا محمد وانت راكب القطر متبقاش تستعجل الوصول.
استعدل ظهره ووضع راحتيه على ظهر الدكة وأستكمل : طول ما انت راكب القطر أعتبر كل محطة جايه هي محطة وصولك، في المنيا أنزل المنيا واتفرج على محطة المنيا، وف أسيوط إنزل شوف ناس أسيوط وأول ما القطر يصفر أتشعبط تاني فيه، لغاية ما توصل لمحطتك الأخيرة.
ببلاهة شديدة علمتها الأن كان ردي : وعلى ايه التعب، ما تخليني في الكرسي بتاعي لغاية ما أوصل ولا أنزل ولا أطلع.
بدأ يرمقني بنظرة بدأها من أسفل قدمي وأرتفع بعينيه حتى تلاقت عينيه بعيني، حينها فهمت مقصده من الكلام ولكن لساني الأرعن كان قد ألقى برده السخيف : وعلى ايه التعب.
هز رأسه المحاط بعمامته المفككة وقال في صوت بدا وكأنه صوت أخر لم أعتده ولم أسمعه قبل الأن : محطتك الأخيرة دكة زي الدكة دي، متستعجلش توصلها ، و من هنا ورايح انزل اتفرج على المحطات يا محمد.

مضى على هذا الحديث شهور سبعة علمت بعدها كم كان حسن مخطئاً في تقديره!
ففي صباح أحد أيام الشتاء بينما الشمس توقظ أشعتها النائمة كي تبدأ العرض الجديد لأحد الأيام، بدأت كل الأشعة في التمدد سريعاً منشرة في الفضاء الواسع للكون.
لم تصل لأرض قريتي حصتها من نور الشمس كاملة ، فقد نقص شعاع كان حسن يتدثر به يوماُ على دكته الخشبية.
مات حسن عند الفجر على دكة خشبية أخرى غير التي كان يحدثني من عليها.
هل كان يعرف أنها ستكون محطته الأخيرة؟. تمت

التسميات:

اسمع